الشعر الغنائي السعودي (الخالِد)


 

قبل التحدُّث عن قُوَّة الشِعر الغنائي السعودي وأثَره في صِناعة أغنية (خالدة) على نِطاق عربي واسع يُردِّد كلماتها العذبة وعواطفها العميقة ورسائِلها النبيلة، لا بُد أن نُلقي نظرة تاريخيَّة على مراكِز القُوَّة الفنيَّة في الدول العربيَّة. وهذا بدون شك يُعيدنا إلى رِحلة سيّد درويش في مصر التي أحدثت نقلة نوعية في عالم الموسيقى الشرقيَّة منذ عشرينيات القرن الماضي، بعد حُقبة لم يُعرَف فيها سِوى الأغاني الشعبية المناطقية التي لم تتعدَّ حدودها حتَّى دخول الاسطوانات وبدايات حركة تسجيل الأغاني. وخلال رحلة درويش ظهرت الأغنية المكبلهة، وازدهرت البيئة الفنيَّة في مصر والشام واكتظَّت الساحة بالمُطربين والمُلحّنين والإنتاجات الموسيقية الجديدة. كانت (مصر) الينبوع الموسيقي الذي تفجَّرت منه جماليَّات الأغنية العربيَّة، وتدفَّقت أنهاره إلى الشام فأخرجت لنا وديع الصافي وصباح فخري والفنانة صباح وفيروز.

ثم لحِق السعوديُّون بالركب في الخمسينات بعدما اُبتُعِث الفنان طارق عبد الحكيم إلى معهد موسيقات الجيش في مصر عام 1952. ومن هُنا بدأت مسيرة (مُؤسس الأغنية السعودية الحديثة) والَّذي جاء من بعده الفنّان طلال مدّاح يُتّم الرسالة الموسيقية الراقية على أكمل وجه.

 

مراكز القوة الفنية في (الشعر الغنائي)

صحيح أنَّ العقود الزمنية من الأربعينات إلى التسعينات في الشام أطربت العالم العربي بفنون مُطربيها، إلَّا أنّها صدَّرت أنماط مُحدَّدة من الأغاني، الأول: الأهازيج التراثية الشامية ذات الكلمات البسيطة التي تصف الأحداث اليومية، والثاني: استعمال الموروث العربي الفصيح.

وبناءً على هذا حين نتحدَّث عن مراكز القوة الفنية في (الشعر الغنائي) نضطر لاستبعاد الشام بالحقيقة، فهي لا تُقارن بالأغنية المصرية والسعودية التي صنعت كلمات "خالدة" فيها من الحِكَم والعِبَر ما يصف أعمق المشاعر الإنسانية. إنَّها سِمة بارزة لا يُمكن تجاهلها في الشعر الغنائي المصري والسعودي ذو العبارات الرنَّانة والأوصاف عميقة المعنى والشعور. فأنت عزيزي القارئ تستخدم في حواراتك اليومية كلمات من أغاني خالدة، كأن يتحدّث شخص أمامك عن الحُب بطريقة مُسيئة وتُجيبه: "حب ايه اللي انتا جاي تقول عليه؟". أو يشتكي أحدهم من قسوة الحب وتُجيبه من أغنية (سيرة الحب): "العيب فيكم يا في حبايبكم.. أما الحب يا روحي عليه!" أو يستفزك أحدهم وتُجيبه: "إنما للصبر الحدود"، أو يعود غائب بعد فوات الأوان وتقول: "عايزنا نرجع زي زمان؟ قول للزمان إرجع يا زمان!". حتى إذا أوصاك أحد بالصبر على أمر الحبيب ستتذكّر غِناء الست: "وصفولي الصبر.. لقيته خيال وكلام يادوب يتقال". ولا أنسى العبارة الشهيرة "مقدرش على بُعد حبيبي" على أنها جُملة تعبيرية عادية! إلا أنَّ عبقريّة اللحن كانت سبب تخليدها وتمييزها من قلب القصيدة وتحويلها إلى (بصمة للأغنية) على يد موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.

 

وكذلك الأمثلة لا تُحصى في الأغنية السعودية، فيمكنك أن تستنبط منها "أجمل النداءات" وأجمل لُغات الحب، وأجمل رسائل العتب، وأعذب ما يُقال في العشق. الأغنية السعودية غزيرة وفيرة بالكلمة التي تصل لأعمق نقطة في روحك وتبقى هُناك يُشعِلها الحنين في كل مرة تستمتع للأغنية.

فإذا شعرت بالحسرة تتذكر: "آه من قلبي نصحته بس عيَّا!"، وعند المواساة العاطفية تقول: "تقسي الليالي ولكن ما تقسّينا"، حتى في نقد العشق المُزيّف تُعطيك الأغنية السعودية دروس لا نهائية!

"لا عاش خلٍّ تنكَّر عن هوى خلَّه.. يومٍ حبيبٍ ويومٍ صار قوماني!"

بل يا عزيزي القارئ أُؤكد لك أنَّ بإمكاني كتابة مسرحية غنائية متكاملة بسيناريو عاطفي تقوم حواراته على كلمات الأغنية السعودية، وسأجِد كل ما أحتاجه لبناء قصَّة متماسكة لا يشُوبها أي خلل! بسبب وفرة المعاني وغزارة الأوصاف.

 

نماذج للأعمال الخالدة

لعل أهم عامل ومُسبِّب لتوقّف الإنتاج الموسيقي السعودي (الجيّد) أنَّ الشاعر اليوم لا يستأمن مُلحِّن على كلماته ولا يُعطِ مُغنِّي صاعد لا يعرِف كيف يتعامل معها ورُبَّما لا يُقدّرها.

أمَّا قديمًا كان الشاعر يُعطِي كلماته لقامات فنية لها وزنها بالساحة، وعلاوة على نجاحهم الساحِق لا يأخذهم الغرور ولا يكتفون بحصيلة إنتاجاتهم، بل يستمرّون بلا هوادة في السعي إلى المزيد حُبًا أصيلًا للفن والموسيقى، وتجِد المُطرِب فيهم يُغني ويعزف ويُلحّن! فما يحدث اليوم لا يُقارن على سبيل المثال بكواليس أغنية خالدة كـ "مقادير". فبكل تأكيد الشاعر الأمير محمد عبدالله الفيصل لن يشغل باله بتلحين الأغنية ولن يهتم كثيرًا في شكلها الأخير لانه سلّمها لـ "طلال" وهو يعلم من طلال. أمَّا اليوم فعلى الشاعر حقيقةً أن يخشى تشويه كلماته بسبب جهل واستهتار ما يُطلِقون على أنفسهم "مُلحّنين" وهم لا يعرِفون سِوى إيقاع واحد ومقام واحد.

أغنية "مقادير" تُلامِس كل إنسان في حُزنها وحسرتها بمقام الصبا الذي يُثير لواعج النفس ويزيد حدّة المشاعر أثناء سماعها، فالمُلحّن العظيم سِراج عُمر هُنا وظَّف كلمة "مقادير" لتُغنّى بنبرة باعثة على الاستسلام للقدر: "وش ذنبي أنا"؟! كُل هذا الإبداع المتواصل والجهود المدروسة خلف كواليس الأغنية ساهمت في انتشارها على أوسع نطاق، حتى صار يدندنها كل لسان عربي.

استطاع سِراج أن يُشعِرك بالأمل في "على ميعاد حنّا" ثم يُصِيبك بالخيبة "وكان الفرح غايب.. وأتري الأمل كاذب!" بين صعود وهبوط اللحن يخفق قلبك وتشعر أنَّك تعيش القصة بكل جوارجك وأحاسيسك.

ثم ترتفع النبرة وتستعد الكمنجات لحسرة طلال واستنكاره: "ألا يا أهل الهوى كيف المحبة تهون؟!"

 

والحديث عن الأغاني السعودية الخالدة لا ينتهي ويحتاج إلى مُجلَّدات ضخمة لتدوين جماليّاتها، ولكن ذكري لمثال "بنمط الكوبليهات" لا يعني أن الأغنية الشعبية ليست خالدة! بل الأمثلة لا تُعد ولا تُحصى على نجاح وشُهرة المجرور والسامريّات، وما زالت تعيش بيننا ينبعاويات أبو هلال وأبو سراج "يا بنت حسَّانِي.. أبوكي وصَّاني"، وخبيتيات "يا أهل الهوى ما ترحموني" ولها ارتباطها العاطفي الخاص بالسعوديين، إنَّما لكل صنف من الأغاني جماليّاته الخاصة. و(الأغنية الشعبيَّة) قيمتها تكمُن في أصالتها وعراقتها التاريخيَّة كقصَّة تحكي وقائع الحياة اليوميَّة لأجدادنا، أمَّا (الأغنية الطربيَّة) قيمتها في عُمق عاطفتها وتنوُّع ألحانها وجودة أدائها والمجهود الَّذي بُذِل في إنتاجها.

أمَّا (الأغنية الاستهلاكيَّة) اليوم فهي "فاقدة المعنى" لأنها لا تُصنَع بطُرق مدروسة، بل تُنتَج بسرعة للحصول على تريند مؤقت ثم تختفي تمامًا، ويُصاب الناس بالغثيان من كثرة استهلاكها بعد صدورها، وهي أغنية عاجِزة عن الخلود وتفقد قيمتها بعد انتهاء عُمرها القصير. بِعكس الأغاني الشعبية والطربية هي أعمال لا يُمل منها ويُمكِنها أن تعيش إلى الأبد.

 

موت الأغنية السعودية الطربية

ما الذي حدث للأغنية السعودية بعد (الأماكن)؟

ما العوامل والأسباب التي أدَّت إلى اختفاء الأعمال الجيَّدة، مع أنّ جمهور الأغنية الطربية ما زال موجود ويستمع لها كُل يوم! ولماذا فرُغت الساحة الفنية من الخبراء الموسيقيين حتى ضاعت معايير الأعمال الطربية وصار يغني وينتج كل من لا علاقةَ لهُ بالفن؟

اترك التعليق لكم...


Comments

Popular posts from this blog

مصير الكتاب في المستقبل | 30 سبتمبر 2023